
نوادل وجدة… وجوه تبتسم للزبائن وتبكي في صمت
في شوارع مدينة وجدة، حيث تختلط رائحة القهوة بصخب الأحاديث اليومية، تقف وجوه صامتة خلف الابتسامات المتكررة. هم النوادل، أولئك الجنود المجهولون الذين يحفظون أسماء الزبائن وعاداتهم، دون أن يعرف أحد تفاصيل معاناتهم اليومية، أو يحاول الإصغاء إلى شكاويهم المختبئة خلف “تفضل سيدي”.
عادل، نادل في أحد المقاهي الشعبية بوسط المدينة، يبدأ يومه في السابعة صباحًا ولا ينهيه قبل منتصف الليل. ساعات طويلة تحت وطأة التعب والضغط، لا يحكمها قانون، ولا تُؤطرها حماية اجتماعية حقيقية. يقول بصوت خافت وهو يُرتب الكؤوس: “أشتغل أكثر من 15 ساعة يوميًا مقابل 80 درهمًا في أحسن الأحوال، ولا أتوفر لا على تغطية صحية، ولا على تقاعد، وحتى كلمة شكر صارت نادرة”.
ليست ظروف عادل استثناء، بل هي القاعدة في معظم مقاهي المدينة. العمل في القطاع غير المهيكل يجعل النادل في موقع هش، عرضة لكل أشكال الاستغلال. وفي غياب أي تعاقد رسمي، يصبح مصير النادل مرهونًا بمزاج صاحب المقهى، الذي قد يطرده في لحظة دون سابق إنذار، ودون أن يترتب على ذلك أي التزام قانوني.
محمد، نادل سابق اضطر لترك العمل بعد إصابته في قدمه أثناء حمله لصينية ثقيلة، وجد نفسه دون مدخول، ولا حتى كلمة مواساة. “كنت أشتغل منذ خمس سنوات في مقهى راقٍ، أصبت أثناء العمل ولم يتكفل بي أحد. خرجت من الباب الخلفي كأنني لم أكن أشتغل هناك أصلاً”، يقول بنبرة ممزوجة بالغضب والخذلان.
الوجوه تختلف، لكن القصة تتكرر: لا حد أدنى مضمون، لا تعويض عن الساعات الإضافية، لا تغطية صحية، ولا تقاعد. النادل في وجدة ليس موظفًا ولا عاملاً بالمعنى القانوني، بل هو بين المنزلتين، يعيش على هامش القانون وهامش المجتمع، رغم أنه من أكثر الأشخاص تواصلاً مع الناس يوميًا.
ورغم أن بعض المقاهي الحديثة بدأت تحاول تنظيم وضعية مستخدميها، إلا أن النسبة الكبرى ما تزال تُخضع النادل لمنطق السوق: من يُطيع أكثر، يبقى أكثر. أما النقابات، فهي بعيدة عن هذا الواقع، إما بسبب ضعف تأطيرها لهذا القطاع، أو لأن أغلب النوادل لا يملكون الجرأة للانخراط، خوفًا من الطرد أو الملاحقة.
في مدينة كوجدة، حيث تتكاثر المقاهي بشكل لافت، وتتحول إلى فضاءات للقاء والنقاش والاستراحة، يبقى النادل مجرد “ظل” في الزاوية، يحفظ تفاصيل الجميع، دون أن يلتفت أحد إلى تفاصيله. وهو ما يطرح سؤالاً ملحًا: متى تتوقف القهوة عن أن تكون مرّة فقط في الكوب، لتُصبح أقل مرارة في حياة من يقدّمها؟